الأحد، 4 مايو 2014

التعصب والعصبية تفرق وجاهلية




ذم الإسلام التعصب ونهى الشرع عنه سواء أكان التعصب لشخص أو قبيلة أو مال أو جاه أو غيره, بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية ووصفها بالمنتنة؛ تقبيحاً لها وتنفيراً من شأنها..

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
ذم الإسلام التعصب ونهى الشرع عنه سواء أكان التعصب لشخص أو قبيلة أو مال أو جاه أو غيره, بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية ووصفها بالمنتنة؛ تقبيحاً لها وتنفيراً من شأنها.
والعصبية لها صور شتى؛ فمنها العصبية من أجل الدنيا كعصبية الرجل لذاته ومبالغته في نرجسيته, وكعصبية الرجل لولده وأهله وقبيلته, وكعصبية الرجل لبلده وجنسيته وازدراءه من دونه من الجنسيات ولو كانوا مسلمين, ومن أدهى صور العصبية الحديثة التعصب لناد أو فريق رياضي تعصباً قد يودي بحياة صاحبه في حمأة الانفعال, وقد حدث وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين - أي ضرب - رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله: « ما بال دعوى الجاهلية؟ » قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: « دعوها فإنها منتنة ».

إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها؛ ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، وتعالوا بنا نسمع هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك. فقال رسول الله: « انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة».
فياله من مرض فتاك قد يودي بالمحبة ويذهب الألفة ويغري العداوة بين الأحباب ويفرق بين الأقران ويثير الحروب بين القبائل والعشائر, ويزرع الضغائن بين من يفترض أنهم بنيان مرصوص.
وأما التعصب للمال والدنيا والإخلاد إليها فقد سماها الشرع عبادة عياذاً بالله, فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ».

ومن صور العصبية أيضاً التعصب الديني, ومنه المذهبية المذمومة التي يقدم فيها الأتباع قول المذهب على قول الله ورسوله, والصورة الأضيق من صور هذا النوع هي صورة التعصب للشيخ حتى لو خالف الدليل الصحيح من الكتاب والسنة.

ومن صور التعصب الحديثة التعصب لجماعة أو حزب, فتجد المنتمي إليه يدين بالولاء لأصحاب جماعته دون غيرهم من المسلمين, وهذا مذموم لا محالة فالله قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الجميع إخوة في الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، وفي الصحيح: « والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه »، وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله »، والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وفي الصحيح أيضا: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا عبد الله أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» [تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده] وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني الفئتين المقتتلتين، {وَاتَّقُوا اللَّـهَ } أي في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه".

وقد وصفت السنة المطهرة التعصب لشيخ أو عالم حبر واتباعه حتى لو خالف الدليل بالعبادة.
قال صاحب معارج القبول: "وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أربابا من دون الله فقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ } [التوبة: 31] الآية.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها: إنا لسنا نعبدهم. قال: «أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ » قال: بلى، قال: « فتلك عبادتكم إياهم ».
فالتعصب لعالم أو شيخ حال مخالفته للكتاب والسنة تعصب مذموم قد يورد صاحبه المهالك.

ومما تنفطر منه القلوب في عصرنا الحاضر تقليد بعض صغار الأسنان لبعض الدعاة الذين يلتصقون بهم في سب وتجريح دعاة آخرين قد يكونوا من الربانيين العاملين.
فليعلم هؤلاء أن لحوم العلماء مسمومة وليعدوا للسؤال أمام الله عز وجل جواباً من الآن على خوضهم فيما لا يحسنون وتعاليهم على من بذلوا أوقاتهم وأموالهم وأبدانهم في الدعوة إلى الله عز وجل, وقد يكونوا من أوليائه سبحانه الذين توعد الله بالمحاربة من بارزهم بالعداوة.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ».


وقد تواترت الآثار عن أئمة السلف الدالة على ضرورة ووجوب اتباع الدليل وترك التقليد الأعمى والتعصب المذموم.


قال العلامة الألباني رحمه الله:
أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها:
1/ أبو حنيفة رحمه الله:
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن مثبت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها:
1- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [ابن عابدين في "الحاشية" 1 / 63].
2- "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه" [ابن عابدين في "حاشيته على البحر الرائق" 6 / 293]، وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"، زاد في رواية: "فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا".
وفي أخرى: "ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد".
3- "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي" [الفلاني في "الإيقاظ" ص 50].


2/ مالك بن أنس رحمه الله:
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال:
1- "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 32].
2- "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 91].
3- قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: "ليس ذلك على الناس"، قال: "فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه »، فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع". [مقدمة "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ص 31 - 32].


3/ الشافعي رحمه الله:
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها:
1- "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي" ["تاريخ دمشق" لابن عساكر 15 / 1 / 3].
2- "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد" [الفلاني ص 68]
3- "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" [النووي في "المجموع" 1 / 63].
4- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [النووي 1 / 63].
5- "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا" [الخطيب في "الاحتجاج بالشافعي" 8 / 1].
6- "كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي" [أبو نعيم في "الحلية" 9 / 107].
7- "إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1].
8- "كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2].
9- "كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني" [ابن أبي حاتم 93 - 94].


4/ أحمد بن حنبل رحمه الله:
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، ولذلك قال:
1- "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" [ابن القيم في "إعلام الموقعين" 2 / 302]،
وفي رواية: "لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير"،
وقال مرة: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير" [أبو داود في "مسائل الإمام أحمد" ص 276 - 277].
2- "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 149].
3- "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة" [ابن الجوزي في "المناقب" ص 182].


تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة المثبتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].


قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع
ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه".

قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها؟ ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم قال في أوله: "إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم".


ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعا للسنة:
ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرا منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين:
1- قال الإمام محمد في "موطئه" ص 158: قال محمد: "أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه" إلخ.
2- وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيرا لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به، ولذلك كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.

فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأصلح قلوبنا بالإيمان واغفر لنا يا رحمن.

مظاهر التعصب و أسبابه و نتائجه

 
 
 
 
التعصب "مظاهره – أسبابه – نتائجه -
البعد الشرعي"
 
د/ عادل الدمخي
بسم الله الرحمن الرحيم
 
تعريف التعصب
لغة: يأتي بمعنى الشدة يقال لحم عصب: صلب شيد، وأتعصب أشتد، والعصب: الطي الشديد، وعصب رأسه وعصبه تعصيباً: شده واسم ما شد به العصابة.
ومن أمثال العرب: فلان لا تعصب سلماته، يضرب مثلاً للرجل الشديد العزيز الذي لا يقهر ولا يستذل.
ومنه قوله عز وجل "هذا يوم عصيب" أي شديد.
ويأتي بمعنى: التجمع الإحاطة والنصرة ومنه قوله عصبة الرجل: بنوده وقرابته لأبيه والعرب تسمى قرابات الرجل أطرافه ولما أحاطت به هذه القرابات وعصبت بنسبه سموا عصبة وكل شيء استدار بشيء فقد عصب به والعمائم يقال لها العصائب، ويقال عصب القوم بفلان أي استكفوا حوله والعصبة والعصابة جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين.
والتعصب من العصبية والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.
والعصبي هو الذي يغضب لعصبته ويحامي عنهم.
اصطلاحاً:
لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي فالتعصب هو التشدد وأخذ الأمر بشدة وعنف وعدم قبول المخالف ورفضه والأنفة من أن يتبع غيره ولو كان على صواب.
وكذلك التعصب هو نصرة قومه أو جماعته أو من يؤمن بمبادئه سواء كانوا محقين أم مبطلين، وسواء كانوا ظالمين أو مظلومين.
وبضدها تتبين الأشياء:
فالتعصب ضد التسامح ،والانغلاق ضد الانفتاح والتحجر ضد التفكر ، ورفض الآخر وعدم قبوله ضد التواصل معه والتعايش والتوافق والعصبية والحمية ضد التجرد للحق والانتصار له فمعاني التعصب ممقوته مذمومة وضدها هذه المعاني الجميلة المحمودة.
من مظاهر التعصب:
1. التعصب الحزبي:
وهو التعصب للفئة أو الحزب أو الجماعة التي ينتسب إليها الفرد والانتصار لها بالحق والباطل، وإضفاء صفة العصمة والقداسة عليها، وذكر مزاياها ومحاسنها ومهاجمة غيرها بذكر عيوبها وسيئاتها ويعظم حزبه ويحتقر غيره.
2. التعصب القومي:
وهو الانتصار للقومية التي ينتسب إليها لمجرد القومية، كما تعصب الأتراك لقوميتهم في آخر الخلافة العثمانية وكما تعصب العرب لقوميتهم مقابل هذا التعصب وحروب القوميات لا تخطئ على الناظر وقد تقع في البلد الواحد.
3. التعصب المذهبي أو الطائفي:
هذا التعصب الذي فرّق المسلمين وجعل لهم أربعة منابر في الحرم المكي حول بيت الله ومنع الشافعي يصلي خلف الحنبلي والحنبلي خلف المالكي وهلمّ جرا وأغلق باب الاجتهاد في وجه الأمة، والتعصب الطائفي الذي أشعل نار الفتنة والقتال بين طوائف الأمة كتعصب الخوارج ضد الصحابة وقتالهم.
4. التمييز العنصري:
بسبب الجنس كتمييز الذكور ضد الإناث أو اللون كتمييز الأبيض ضد الأسود أو الأرض والوطن كالتمييز الحاصل ضد المهاجرين واللاجئين ، أو القبيلة كالتمييز ضد أبناء القبائل الأخرى واحتقارهم.
5. التعصب الفكري:
وهو رفض فكر الآخر وعدم قبوله والاستماع إليه وترك التجرد والإنصاف في الحكم عليه والتشدد في التعامل معه ونقده بألذع الصور وتكوين صورة وإطار معين لفكر المخالف مشوبة بكثير من الأخطاء والمغالطات لأنها قائمة على أسس وأهية من التعصب والتحجر.
من أسباب التعصب:
1. تضخم الذات: كما قال فرعون:
ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " وهذه الذات المتضخمة قد تكون ذات الشخص أو ذات الجماعة أو ذات الدولة.
2. الجهل والتخلف المعرفي:
فالجهل بالآخر وعدم توسيع المدارك بمعرفته والإطلاع على ما يؤمن به، يدعوه إلى التعصب ضده ورفضه وحسبنا أن نقول: إن الهجوم على الإسلام اليوم ومحاربته من كثير من الشعوب الغربية هو بسبب الجهل بمبادئه وعدم معرفته على الحقيقة هذا مع التشويه وإلقاء الشبهات المتعمد وغير المتعمد من وسائل الإعلام وغيرها.
3. تقديس البشر والغلو فيهم:
كما قال تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" وهذا التقديس والغلو يصل إلى حد إضفاء صفة العصمة والقداسة مما يؤدي إلى التعصب لهذا الشيخ أو لهذه الجماعة.
4. الانغلاق وضيق الأفق:
نجد كثيراً من الطوائف والجماعات منغلقة على ذاتها لا تسمع إلا لنفسها وتمنع أتباعها من الاستماع لغيرها وكثير من الأفكار المتطرفة والمتعصبة تنشأ في الأوكار السرية وسراديب الظلام في أجواء مغلقة تعلِّم الإرهاب ورفض الآخر والعنف الموجه وتكفير المخالف.
5. التنشئة الاجتماعية:
فالنشأة في أسرة تميز ضد اللون أو الجنس أو القبيلة والجماعة أو الفكر وتغذي روح التعصب والتطرف ضد الآخر تنتج لنا أناسا متعصبين ومتحجرين ومتطرفين والأسرة نواة المجتمع، وتأثير تنشئتها لابد وأن يظهر في المجتمع ، وقد يغلب فيكون التعصب هو الصبغة العامة له.
6. الفهم الديني الخاطئ:
لا شك أن الانحراف في فهم الدين من أسباب التعصب الرئيسية فالتعصب الصليبي ضد المسلمين كان ناتجا من فهم خاطئ لمبادئ الدين النصراني، والتعصب المذهبي الذي أدّى إلى رفض الآخر في الإسلام كان ناتجاً من فهم خاطئ لاتباع العلماء.
7. غياب أخلاقيات التعامل مع المخالف:
مثل العدل والإنصاف والتجرد والتعايش معه رغم الاختلاف والثناء عليه بما أصاب والدفاع عنه إذا ظُلم وتطاول عليه الآخرون بغير حق وغيرها من الأخلاقيات التي سنذكرها في البعد الشرعي.
 
نتائج التعصب:
كل ما ذكرناه فيما سبق من مظاهر التعصب الممقوت هو من نتائجه فالتعصب سبب رئيسي لتفرقة الأمة وتشتتها وعدم اجتماعها والتعصب هو فتيل الفتنة والاقتتال بين فئات الشعب الواحد والأمة الواحدة ،والتعصب هو سبب رفض الآخر ورفض التعايش والتوافق معه.
البعد الشرعي:
جاء الإسلام ليحارب كل أشكال التعصب والانغلاق.
• فكل بني آدم مكرم: "ولقد كرمنا بنى آدم " وقال عز وجل " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .. الآية " فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى كما قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم).
• ويأمرنا الله بالعدل والإنصاف "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"، "إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
• وكل تعاون على الإثم والعدوان محرم "وتعاون على البر والتقوى ولا تعاونا على الإثم والعدوان".
• وجعل الإسلام المناصرة بين المؤمنين على الحق ودفع الظلم: قال تعالى "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" وقال صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فقال رجل يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ فقال تحجره أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" وقال صلى الله عليه وسلم "من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردى فهو ينزع بذنبه ".
• وأساس التفاضل في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح "إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقال صلى الله عليه وسلم "لينتهين أقوام يفتخرون بأبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبيه الجاهلية، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي ، الناس كلهم بنو آدم خلق من تراب".
• ومنع الإسلام الظلم والبغي وكان مع المخالف: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" وقال تعالى: "ولا يجرمنكم شنأن قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " ودعا إلى قبول الحق ، كما قال صلى الله عليه وسلم: الكبر بطر الحق وغمض الناس" والحق لا يعرف بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال معاذ رضي الله عنه: "أقبلوا الحق من كل من جاء به وأن كان كافراً أو قال فاجراً ، قالوا كيف نعلم إنه يقول الحق ؟ قال: "على الحق نور".
• وحارب الإسلام تقديس البشير وإعطائهم منزلة فوق منزلتهم "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " ومن غلو من كان قبلنا أنهم " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ".
• والإسلام دين الرحمة والتسامح مع المخالف : قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وقال تعالى "لا إكراه في الدين " يقول المؤرخ الغربي (أر نولد): "إن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح" ويقول (جوستاف لبون) "وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم، ولو علموا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وأسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم غير ضاربين عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل، وما عرفت الشعوب فاتحا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا ديناً حوى في مطاوية هذه الرقة واللطف".
وفي الختام إيضاحات لابد منها:
1- لابد من الاختلاف فيما بيننا لأننا بشر نخطئ ونصيب ولسنا ملائكة فلا نستطيع أن نزيل الخلاف أو نلغيه ولكن نستطيع تقليل دائرته والتعايش السوي السليم معه، ولابد لنا من التأدب بآداب الإسلام في التعامل مع المخالف.
2- ليس من التعصب الاعتزاز بالشخصية الإسلامية وبيان عظمة هذا الدين وأنه دين جاء ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأنه الدين الخاتم الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء، وهذه الشخصية المسلمة ترفض التبعية والانهزامية أمام أعدائها مما يدعوهم إلى رميها بالتعصب كما هو الحال اليوم.
3- وكذلك ليس من التعصب حوار المخالف، والرد عليه علمياًً وكشف خطئه وبيان نوع الزلل الواقع فيه إن كان كفراً أو بدعة أو معصية مع الحفاظ على أدب النقد العلمي الرصين، وأدب التعامل مع المخالف، وعدم إطلاق الأحكام المتعصبة جزافاً لمجرد المخالفة.
 
 
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.
 
 
د. عادل الدمخي
ربيع الآخر 1426 هـ
18/5/2005م
بحث د/ عادل الدمخي
2

أشكال التعصب

للتعصب أشكال مختلفة قد يرتبط بعضها ببعض:

التعصب الديني
التعصب السياسي
التعصب الاجتماعي
التعصب الكروي
التعصب القبلي
التعصب العرقي
التعصب الطائفي


تعريف التعصب

التعصب هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب. التعصب ظاهرة قديمة حديثة ترتبط بها العديد من المفاهيم كالتمييز العنصري والديني والطائفيي والجنسي والطبقي، ولعلك استنتجت من دراستك للحروب والصراعات التاريخية أن كثيرا منها كان سببه هو التعصب للدين أو العرق أو اللون وما زالت هذه الظاهرة تتجدد باستمرار في عصرنا الحالي وتشكل آفة تدمر الشعوب.

وقد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني عام 1981 م إعلان خاص بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقدات، وتعني أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس الدين أو المعتقد ويكون غرضه أو أثره تعطيل أو إنقاص الاعتراف بحقوق الأنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على أساس من المساوة.